بقلم - عريب الرنتاوي
عندما يجتمع سياسيون وجنرالات وخبراء من أكثر من مائة دولة في العالم، يتوزعون على قاراته الخمس، تتوفر لك الفرصة منذ اللحظة الأولى لبدء فعاليات المؤتمر، للنظر إلى الشرق الأوسط من زاوية كونية واسعة، فتتعرف من دون عناء، ومن نظرة سريعة على عناوين الجلسات وجدول الأعمال، على حجم الاهتمام الدولي بما يشغل بالنا ويستحوذ على يومياتنا.. هذا هو حال «السائحين» من دول الشرق الأوسط، الذين تقاطروا إلى مؤتمر موسكو الثامن للأمن الدولي.
تحضر التهديدات والأخطار الكبرى التي تواجه السلم والاستقرار على سطح هذا الكوكب، وتُذكر قضايا من نوع «اختلال النظام العالمي» الذي غادر قطبه الواحد، ولم يعثر بعد على صيغة تنظم العلاقة بين أقطابه القديمة والصاعدة.. يحضر العالم «السيبراني» الافتراضي، بوصفه ساحة لحروب لا تقل خطورة على الحروب التقليدية وغير التقليدية، ونبع لا ينضب من الفرص والتهديدات.. يحضر التغير المناخي بوصفه خطراً ماحقاً يتهدد الدول المصدرة للاجئين والمستقبلة لهم سواء بسواء.. تحضر قضايا سباق التسلح، التقليدي والنووي وتحضر معها معاهدات منع الانتشار التي يطاح بها الواحدة تلو الأخرى.. يحضر نشر الصواريخ المضادة للصواريخ على حواف أوروبا و»الأوراسيا»، وتحضر معها محاولات «عسكرة» الفضاء الخارجي.
منطقتنا العربية تحضر من زوايا محددة، فمن أصل سبعين مليون لاجئ ونازح في العالم، تسهم هذه المنطقة في تشكيل 40 بالمائة منهم، مع أن سكانها لا يتعدون الستة بالمائة من سكان الكرة الأرضية.. تحضر من زاوية «الإرهاب العالمي»، فهي منطقة مصدرة بجدارة للإرهاب، مثلما تصدر النفط والغاز.. تحضر في سياق الحديث عن «الدول الفاشلة» أو تلك التي تقف على حافة الفشل.
ولولا أن بعض الوفود العربية والاقليمية حملت معها «هواجسها المحلية» و»أجنداتها الضيقة»، من نوع الصراع الإيراني - السعودي، والسوري – التركي، لما انتبه أحدٌ لما يشغل بالنا، ونعدّه واحداً من أخطر الصراعات التي شقت المنطقة إلى محاور طائفية ومذهبية، في لعبة جيوسياسية، لا تخفى مرامي وأهداف أطرافها على أحد.
من نافل القول إن القضية الفلسطينية لم ترد على لسان أحد، دع عنك صراع فتح وحماس، العالم لا يتذكر هذه المفردات، إلا أن وجِد من يذكّر بها، والعرب غائبون عنها، غارقون في صراعات انتحارية مع جوار إقليمي، في معركة لن يخرج منها منتصر أو مهزوم، فالكل خاسر فيها لا محالة، مهما بدا له خلاف ذلك.. لم أسمع أحداً يتحدث عن صفقة القرن، ولا عن مصير العلاقة الأردنية الفلسطينية بعد الكشف عنها أو نقلها إلى حيز التنفيذ، لا أحد مشتغل بهذه القضايا، ولولا أن سوريا تقع في القلب من الاستراتيجية الكونية لموسكو، لما ذكرت بتاتاً، بدلالة أن المشهد العراقي، الذي هو خارج التأثير والنفوذ الروسيين، لم يؤت على ذكره إلا ملحقاً بالأزمة السورية، ومن باب إعادة الإعمار وعودة اللاجئين والنازحين.
لم تأت الوفود، خصوصاً من الدول المتصارعة، لكي تبحث عن توافقات وتفاهمات، تبدو هذه المهمة متروكة للمستوى السياسي، والحضور في المؤتمر غلب عليه الطابع العسكري والأمني، كل من اعتلى المنصة، أدلى بدلوه، وعرض لـ «سردياته» المعروفة، ومشى.. لكأننا أمام «حلبة صراع» يستعرض فيها المختصمون مواقفهم وحججهم واتهاماتهم، وأشهد أن الوفود العربية كانت الأعلى صوتاً في مهاجمة خصومها (ليس من بينهم إسرائيل بالطبع)، في حين ذهبت اهتمامات المشاركين إلى مطارح أخرى.
المشاركة الأردنية العسكرية كانت رفيعة المستوى، فالعلاقات الروسية الأردنية تمر بمرحلة جيدة من التنسيق والتعاون، رئيس هيئة الأركان الجنرال فريحات، قدم مطالعة في محاربة التطرف والإرهاب، تميزت بتأكيداته المتكررة على «القوة الناعمة» لمحاربة الظاهرة، وعدم الاكتفاء بالمعالجات الأمنية أو العسكرية (الخشنة)، وتلكم مسألة، لم يتناولها كثيرون على أية حال.
الحضور الغربي، الرسمي، في المؤتمر، كان ضعيفاً نسبياً، لا بل أن واشنطن عملت على تعطيل مشاركة دول عديدة فيه، كما كشف الجنرال نيكولاي باتروشيف رئيس مجلس الأمن القومي لروسيا الاتحادية في افتتاح المؤتمر.. الأمر الذي أبقى المؤتمر شبه مقتصر على دول صديقة لموسكو أو محايدة في الصراع الروسي – الأمريكي، وقلل من فرص بناء تفاهمات دولية أوسع، تبدو بعيدة المنال، طالما أن مجتمع «الأقطاب» لا يبدو جاهزاً للتوصل إليها، ما ينذر بمرحلة خطيرة من الانهيارات والصراعات على الساحة الدولية، قبل أن تقتنع هذه الأطراف بأن بقاء البشرية رهن باتفاقها على قواعد جديدة للأمن والتعاون الدوليين، ما لم تقتنع «الأقطاب» بأن أي منها لن يكون بمقدوره منفرداً، التصدي لتحديات عصرنا وتهديداته.