عريب الرنتاوي
في السياسة، كما على الأرض، لا تترك إسرائيل يوماً يمر، من دون أن تُلحق ضرراً بالغاً بالفلسطينيين وقضيتهم الوطنية...قادتها، من نتنياهو إلى بينت -لبيد، مروراً بمروحة واسعة من سياسييها وأمنييها، لا يتركون مناسبة تنقضي دون التأكيد على رفضهم "حل الدولتين"، بل وسخريتهم منه، وإصرارهم حتى على تجنب إجراء مفاوضات "عبثية" مع القيادة الفلسطينية، أما مستوطناتها ومستوطنوها، فلا يتوقفون عن الزحف على ما تبقى من أرض الفلسطينيين ووجودهم في الضفة والقدس...قرار إسرائيل بتحطيم أي فرصة لقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة (دع عنك مستقلة)، قرار نهائي ولا رجعة عنه، ويكسب يوماً إثر آ خر، مزيداً من المؤيدين، ولم يعد أنصاره "محشورين" في أقصى يمين الخارطة الحزبية الإسرائيلية، بل باتوا في مركزها، والمستقبل لا يحمل سوى مزيدٍ من انزياحات المجتمع الإسرائيلي وانحيازاته نحو التطرف الديني والقومي."العقل العميق" في إسرائيل، مزهواً بهزيمة المشروع الوطني الفلسطيني، بات يعمل لبعث "الخيار الأردني"، رغم أن المستوى السياسي استأنف حديثه المعسول عن الأردن ومعه، لكنه يكتفي بإعطاء عمان "من طرف اللسان حلاوة"، وثمة عودة لنظرية "الإمارات الفلسطينية غير المتحدة"، وحديث عن "حل الثلاث دول": إسرائيل، الأردن/بقايا الضفة، ومصر/قطاع غزة" ... لا حدود لما قد يتفتق عنه الذهن الخبيث والخبيء لليمين الإسرائيلي العنصري، الذي يرقب باهتمام، عزوف إدارة بايدن عن فعل "شيء مفيد" يتخطى "إطفاء الحرائق" و"نزع فتائل انفجارات لاحقة"، والمراوحة بين حدّي "التهدئة في غزة" و"إجراءات بناء الثقة في الضفة"، أليست هذه أفضل خدمة وتغطية يمكن لإدارة أمريكية أن تقدمها، لمشاريع بينت – لبيد، وتحديداً تلك الخاصة بالقدس، "العاصمة الأبدية الموحدة"، والضفة "يهودا والسامرة"؟!
هذه الحقيقة، تدركها قيادة السلطة والمنظمة وفتح تمام الإدراك، لا مطرح لمزيدٍ من الرهانات والأوهام، إذ حتى "القشة" التي يتعلق بها الغريق، لم تعد في متناول الأيدي ... ولا يتعين أن يُدار الجدل مع هذه القيادة على قاعدة "الإفهام والشرح والتوضيح"، فهم يعرفون، وكل فلسطيني يعرف أن الباب قد بات موصداً في وجه رهانات مدريد – أوسلو وما بعدهما ... لا أحد من الفلسطينيين يساوره الشك، في حقيقة أن المشروع الوطني الفلسطيني بعد قرابة النصف قرن على بلورته بصيغته الحالية (منذ النقاط العشر 1974)، قد "هُزم"، وأن "هزيمته" باتت مدويةً، ومن لا تقنعه تصريحات المسؤولين الإسرائيليين الإعلامية، فلينظر إلى ما يجري الآن في القدس وقلندية وقلقيلية وعمق الضفة الغربية.
نحن بصدد نهاية حقبة، مشروعاً وأطراً ومؤسسات، لكن النهاية لن تحدث فجأة أو دفعة واحدة، تماماً مثلما كانت عليه نشأة الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، التي احتاجت بدورها زمناً وجهداً وألماً وتضحيات .... وقد تمتد طويلاً في الزمن قبل أن يلفظها الجديد الناشئ من رحم الألم والأمل، من جيل جديد من أبناء فلسطين وبناتها...وكلما أوغل دعاة التغيير والتجديد والتشبيب في الحركة الوطنية، في رهاناتهم على "عودة الوعي" و"صحوة الضمير" و"تبدد الأوهام"، كلما تفاقمت المخاطر، وامتد أجل المعاناة، وارتفعت كلف المراوحة وحالة فقدان الاتجاه و"قلة الحيلة" وانعدام البدائل...ولا بديل عن توجيه الجهد والطاقة، لتسريع انبعاث حركة وطنية فلسطينية جديدة، فتلكم هي المهمة والأولوية والرسالة، وهي مهمة لن تنجز بالاشتباك مع السلطة أو الأطر القادمة، على أهمية هذا الاشتباك السياسي والفكري والبرامجي السلمي، بل من خلال تقديم نماذج جديدة في الاشتباك مع الاحتلال والاستيطان والعنصرية.
لم يعد لدى السلطة من وسيلة للحفاظ على وجودها، سوى بقمع شعبها...وإذ استهدفت سياساتها وإجراءاتها خصومها التقليديين من قبل، فإن قبضتها اليوم تمتد لأنصارها وشركائها في منظمة التحرير، وتطاول قادة فصائل وأسرى محررين وعلماء وكتاب وشعراء ومثقفين وفنانين ونشطاء مجتمع مدني ووطنيين غيورين، هل خطر ببال أكثرنا تشاؤماً أن يصبح "العلم الفلسطيني" دليل إدانة لمن يحوزه من "المطلوبين"، ومن قبل الأمن الفلسطيني الذي يرفع العلم ذاته؟ ... هل خطر ببال أيٍ منّا، حتى في أسوأ كوابيسه، أن يرى مناضلين ومفكرين وقادة وعلماء، قضوا أعمارهم جُلّها أو كلها في الحركة الوطنية يساقون إلى زنازين التوقيف والاعتقال التابعة للسلطة؟ ... لا مشروع لدى السلطة تقدمه للناس ولا مشروعية تستند إليها: لا "شرعية ثورية" ولا "شرعية شعبية" ولا "شرعية صناديق الاقتراع" ولا "شرعية الإنجاز"، ولا "شرعية دينية" حتى وإن طرزت عبارة "لا إله إلا الله" على رايات حركة فتح ... لا مشروع ولا شرعية، فالسلطة غارقة في ديونها ورواتب موظفيها ومتقاعديها...وكل همها أن تتدبر أمر بقائها يوماً بيوم وشهراً بشهر.
وحين نتحدث عن السلطة، فإننا نقصد في واقع الحال، "سلطتين اثنتين" منقسمتين على نفسيهما، فوضع حماس في غزة ومع أهلها، لا يقل بؤساً عن وضع فتح في رام الله والضفة ... "التهدئة" و"تخفيف الحصار"، هما مبتدأ جملتها وخبرها، حتى وإن تمت التغطية عليها، بوابل من الشعارات "الفوق ثورية"، وعمليات التعرض للاحتلال، بالصواريخ اليتيمة أو بالبالونات، باتت تندرج في سياقات تخفيف الحصار، لإدامة حكم حماس، وليس لإنجاز الأهداف الجهادية الكبرى ... وتكاد أولوية من زفوا إلينا نبأ "النصر الإلهي العظيم"، أن تنحصر في العودة إلى ما كنا عليه قبل "سيف القدس".
حتى "انتفاضة القدس وسيفها"، التي سجّل فيها الشعب الفلسطيني واحدةً من مآثره الكبرى وأيامه المجيدة، يجري اليوم، تفريغها من كل إنجازاتها، فالانقسام ابتلع نتائج تلك الملحمة، وألقى بثمارها على قارعة الطريق، فحصار غزة اليوم أسوأ مما كان عليه من قبل، وإسرائيل "تعربد" في القدس، وانتهاكاتها لحرمة الأقصى زادت 60 بالمئة مع مجيء حكومة بينت – لبيد، مسقطة معادلة "القدس – غزة" التي أشهرتها حماس ... فتح خشيت من تعاظم قوة حماس، فعملت على وضع العصي في دواليبها، وحماس تصرفت مدفوعة بـ"فائض القوة"، وظنت "أن ما بعد سيف القدس ليس كما قبلها"، وأن اللحظة باتت مواتية لتسوية الحسابات الداخلية، فضاعت مفاعيل "الانتفاضة والسيف" في دهاليز الانقسام ومجاهيله...وبدل أن تُفضي "وحدة الشعب" التي تجلت بأبهى صورها قبل ثلاثة أشهر إلى الحوار والمصالحة، تعمقت انقسامات الفصائل، فلا انتخابات في المدى المرئي والمنظور لأن فتح لا تريدها، وحماس بعد "فتح كابل" باتت ترى الانتخابات والديمقراطية شعارات زائفة ووعود براقة، أما المصالحة فلم تعد مدرجة على جدول الأعمال، بل ولم يعد يستذكرها أحدٌ، حتى من باب ذر الرماد في العيون.
رهانان يتعين استبعادهما:
الأول؛ ويتعلق بالمشروع الوطني الفلسطيني ذاته، مشروع "الدولة/اللا-دولة" المغطى بعبارات كبيرة من نوع "تقرير المصير" و"العودة" و"الاستقلال" و"السيادة" ... إذ آن أوان المراجعة بعد نصف قرن من الفشل والتجريب، ومع تآكل الفرص وتبدد الرهانات ... لا بديل عن المشروع الجامع الجديد: النضال ضد العنصرية والابارتهيد، المبني على "الحقوق المتساوية"، فهو وحده الكفيل بالإجابة على أسئلة مختلف التجمعات الفلسطينية في الأرض المحتلة والمحاصرة والشتات وتوحيدها خلف هدف واحد... لا بديل عن العمل من أجل انتقال روافع هذا المشروع من أطراف الخريطة الحزبية الفلسطينية إلى مركزها ... هنا، يمكن انتظار دور ريادي لفلسطيني 48 والشتات الأوروبي والأمريكي، يلتقي مع "أجنّة" هذا المشروع وقواه المحركة في الضفة والقطاع والقدس، وبالذات مع الأجيال الشابة من المناضلين الفلسطينيين ... هنا، لا بد من حوار وطني فلسطيني شامل، يتخطى "الطابع البروتوكولي"، الكاذب والمتكاذب، للحوارات الفلسطينية التي اعتدنا عليها ... هنا، لا بد من مواءمة ضرورية، بين "الهدف والوسيلة"، لندخل في بحث جدي حول أدوات كفاح الشعب الفلسطيني في المرحلة المقبلة، المتناسبة مع مشروعهم الوطني، بعد إعادة تعريفه.
والثاني؛ ويتعلق بالأطر والمؤسسات القائمة ... بدءاً بخرافة "التمييز المفتعل" بين فتح والسلطة والمنظمة، التي تنطلق من نزعة رغائبية، مشروعة في أهدافها، ومضللة في نتائجها ... ففتح هي السلطة وهي المنظمة، وكل ما سواها، لا يتعدى "الديكور" ... وفتح ليست استثناءً لحركات تحرر أكثر جذرية، لم تعد هي ذاتها، بعد أن استقرت على عرش السلطة لسنوات وعقود، وباتت جزءاً من المشكلة بعد أن كانت هي "الحل" ... فتح هي صاحبة هذا المشروع، حتى وإن توفرت على شركاء صغار فيه، وهي اليوم تمتنع عن إجراء أية مراجعة وتقييم وتقويم، ومواقف فتح من سلوك السلطة القمعي ضد شعبها تتميز إما بـ"الصمت" و"التواطؤ" و"التبرير"، أو حتى "المشاركة" في هذه الممارسة القمعية، ولولا قلة تجرأت وجأرت بالموقف المطلوب، لكانت الطامة الكبرى...لا يعني ذلك للحظة واحدة، أن ألوف، وعشرات الألوف، من كوادر فتح ومناضليها، يمكن استبعاد أدوارهم الكفاحية في قادمات الأيام، فهذه الحركة ربما تكون فقدت القدرة على "التغيير من داخلها"، بيد أن لديها من الرصيد الشعبي والنضالي، ما يجعل قطاعات واسعة منها، توّاقة للالتحاق، ومن موقع الشريك الأساسي، بخيارات الشعب الانقاذية الكبرى.
والسلطة، بذاتها، هي المسؤولة عن "استمرار الوهم" المضلل لشرائح واسعة من الشعب الفلسطيني وأنصاره، بأننا نتجه صوب "حل الدولتين"، وأن كل ما يحتاجه الفلسطينيون لا يزيد عن "تخفيف الحصار على غزة، و"جرعة سلام اقتصادي" مع الضفة، و"مراعاة الاعتبارات الإنسانية" للعائلات المقدسية ... هذه السلطة، باتت عبئاً وقيداً على الشعب ووبالاً على مشروعه الوطني ... وهي منذ الانقسام الأخطر والأطول في صفوف الشعب الفلسطيني، استهلكت طاقاتها وطاقات شعبها في الصراع الداخلي، بدلاً من صرفها وتوظيفها في مواجهة الاحتلال والاستيطان والعنصرية ... هذه السلطة باتت حاجة إسرائيلية أكثر من أي وقت مضى، أقله للتعمية والتمويه، على ما يجري على الأرض الفلسطينية من عمليات قضم وضم، وبأقل قدرٍ من الكلف والضجيج...وبقاؤها بات مشروطاً باستمرار "الحبل السري" المتصل بالرحم الإسرائيلي، الذي يمدها بقدر من "نسغ الحياة" طالما أنها "مفيدة" من منظور حسابات الأمن وهواجس الديموغرافيا التي تشغل مؤسسات صنع القرار الإسرائيلي.
أما المنظمة، فما زالت، ونأمل أنها ستبقى، ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، على أن دعوات تجديدها وتشبيبها وتفعيلها، باتت مشروطة اليوم، وبعد كل هذه السنوات والعقود من الركود والموات، بظهور "لاعب جديد" على الساحة الداخلية الفلسطينية، وبخلاف ذلك، فإن فتح تتحمل المسؤولية الأكبر، عن تآكل مؤسساتها ومكانتها وتأثيرها، من دون إعفاء الآخرين من المسؤولية، وحماس مسؤولة عن محاولات تهميشها وخلق أطر بديلة أو موازية لها، وإضعاف مكانتها التمثيلية، ومؤخراً "اختبار فرصة" ابتلاعها من داخلها...لا أحد أكثر من قيادة المنظمة، مسؤولاً عن هزالها وموتها السريري، ولا سبيل لاستنقاذها إلا بحدوث "الانقلاب الكبير" في وعي الفلسطينيين لقضيتهم في طورها الراهن والمستقبلي، وصعود "طبعة جديدة، مزيدة ومنقحة"، من الحركة الوطنية الفلسطينية.