بقلم - عريب الرنتاوي
لثلاثة أسابيع خلت، و»الغوطة الشرقية» تحتل صدارة عناوين نشرات الأخبار و»مانشيتات» الصحف، وبجميع اللغات العالمية تقريباً ... حتى أن بعض الأطراف العربية والإقليمية، المصطرعة في كل شيء وحول كل شيء، توحدت في تناول موضوع «الغوطة» ... .
والغريب في الأمر، أن الذين تورطوا في حروب الإقليم القائمة والمفتوحة، وتسببوا في خراب دول ومجتمعات، وكانت لهم «أيادٍ حمراء» ملطخة بدماء السوريين في الرقة وعفرين، والذين لم يتورعوا عن قتل المدنيين العراقيين بالجملة والمفرق، والذي حولوا ليبيا إلى خرائب وأنقاض، هم أنفسهم الذين يذرفون الدمع والدم، مدراراً على أطفال «الغوطة» ونسائها ورجالها، لكأن دماء النساء والأطفال والشيوخ، لا تصبح غالية ومثيرة لكل مشاعر الأسى والتضامن، إلا عندما تراق بسلاح الجندي السوري، أما تلك الدماء المسفوكة بنيران صواريخهم وطائراتهم المتطورة، فلا قيمة لها، بل ولا تصنيف لها في المختبرات الطبية على الإطلاق.
العالم يقف على قدم واحدة مواكباً للكارثة الإنسانية في «الغوطة»، وأجزم منذ الآن، أنهم سينسون الغوطة وعذابات أهلها وأنين أطفالها وعويل نسائها، صبيحة اليوم التالي لدخول القوات السورية إليها... سيُطوى ملف الغوطة، وتتوقف البكائيات، تماماً مثلما حصل من قبل في أماكن أخرى من سوريا، فمن من هؤلاء «الإنسانيين جداً»، يتذكر اليوم أهالي شرق حلب ومدنييها، من منهم ذرف دمعة واحدة على مدنيي دير الزور الذين حوصرا لثلاث سنوات من داعش، بلا غذاء ولا دواء ولا كتاب مدرسي، مَن مِن هؤلاء يتذكر كيف مُسحت الرقة عن بكرة أبيها؟
يحدثونك عن سيناريو «غروزني» في «الغوطة»، ولا أدري إن كان ذلك صحيحاً أم لا، فأنا بخلاف السيد ماكرون وتيريزا ماي ودونالد ترامب، لا أثق بـ «جيش الإسلام» ولا بـ «فيلق الشام»، والمؤكد أنني لا أثق بـ»النصرة»... لكن التقارير الدولية المحايدة، وبعضها غربي بامتياز، سبق وأن خلصت بما يشبه الإجماع، إلى أن أبشع تجسيد لسيناريو «غروزني» كان في «الرقة» وليس في «الغوطة»، ووسط صمت دولي مشبوه ومتآمر، مع أن البيت الأبيض، سبق وأعلن بأن رئيسه أطلق يد جنرالاته، للخروج على «ضوابط أوباما» في الحرب على الإرهاب، وأهمها السعي لتفادي إلحاق الخسائر بالمدنيين ما أمكن ... كل ذلك لا يحظى بالاهتمام، لا في نيويورك ولا في جنيف أو غيرهما من عواصم العالم.
لا أحد يحدثك بالتفصيل عن «الغوطة»، من هي القوى المتحكمة فيها، ومن الذي يتوزع «السلطة» و»الثروة» على مساحة مائة كيلومتر مربع في خاصرة دمشق، المدينة التي باتت تضم ثمانية ملايين سوري بفعل الحرب والنزوح، وتخضع يومياً لقذائف وصواريخ «المجاهدين» المرابطين في الغوطة... كل من في الغوطة مدنيون أبرياء، وقذائف الأسد وطائرات بوتين لا تقصف إلا المستشفيات ودور العبادة، سبحان الله، لكأنها مبرمجة لضرب هذه الأهداف، وهذه الأهداف فقط، مبتعدة عن مقار المقاتلين ومعسكرات المسلحين وأنفاقهم ومراكز قياداتهم.
لا أحد يستذكر كيف عاشت الغوطة الشرقية، حروب داحس والغبراء، وكيف قتل مئات المدنيين الأبرياء، والمقاتلين غير الأبرياء، في حروب الإخوة الأعداء .
في الغوطة بشر وعائلات وأطفال ونساء وشيوخ، يجري احتجازهم كدروع بشرية، ويحظر عليهم الخروج إلى ملاذات آمنة، يُفرض حظر التجوال عليهم وتُصادر سياراتهم وتُطلق النيران على من تمرد منهم على أوامر وتعليمات أمراء الجهاد ... تلك معلومات، لا تمت بصلة إلى دعاية النظام، بل تؤكدها مصادر محايدة تتابع الوضع عن كثب، ويعرفها كاتب هذه السطور من مصادر عديدة، لا أحد يريد أن يصغي إليها او يستمع إلى نبضها ... فأقوالهم لا تتناسب مع الرواية الرسمية، ولا تفيد الماكينة الدعائية التي تعمل بأقصى طاقاتها، ولا مصلحة لأحد في التشويش عليها.
على ذارفي دموع التماسيح على مدنيي الغوطة، غير المصدقين لحكاية «الدروع البشرية» أن يستذكروا ما الذي فعله «المجاهد المرحوم» زهران علوش، عندما سيّج مواقع جيشه ووحداته ومقر قياداته، بأقفاص زج بداخلها عشرات الأسرى والمعتقلين، من مدنيين ومعارضين لسلطته وجبروته، ومن بينهم نشطاء المجتمع المدني في دوما وغيرها، ألا تذكرون رازان زيتونة ورفاقها وكيف يجاهر «جيش الإسلام» ويفاخر بالقضاء عليهم وتصفيتهم، وهو ذاته «الجيش» الذي يتسبب مصيره المجهول بقلق شديد لدى قاطني الإليزيه و10 داوننغ ستريت والبيت الأبيض؟
ثمة قدر من النفاق والرياء، فاق كل حد وسقف، فالأجندات السياسية، الخبيئة والخبيثة، لا تبرر كل هذا التباكي والتدليس والتزوير والتلفيق، ولا تجيز لي عنق الحقائق على النحو الذي نتتبعه في حفلات الردح الإعلامية التي ضاق بها الفضاء، واستنزفت مخزونات ضخمة من الورق والأحبار ... ونتطلع لعودة الغوطة الشرقية إلى كنف الدولة، بأقل الخسائر وفي أسرع وقت، ونحزن للمصائر الصعبة التي يجد فيها عشرات ألوف المدنيين، محشورين بين المطرقة والسندان.