بقلم - عريب الرنتاوي
وجه الصديق محمد داودية في سلسلة من المقالات، انتقادات لاذعة للطبقة السياسية الأردنية، وتحدث في مواضع عدة عن غياب أو تغييب «رجالات الدولة» في مرحلة يبدو الأردن بأشد الحاجة لهولاء للقيام بدور «الشارح» و»الناقد» و»المُقيم» و»المقوم» للسياسات في بعديها الداخلي والخارجي، وأجدني متوافقاً مع معظم إن لم أقل جميع ما ورد في معالجاته.
وللحقيقة فإنني ذهبت في الاتجاه نفسه، مرتين على الأقل، الأولى زمن «الأردن أولاً»، والذي صادف دخول الأردن والإقليم في واحدة من أشد المنعطفات حرجاً: حربٌ كونية تلوح نذرها فوق سماء العراق ومياهه... و»سور واق» أريد به إعادة احتلال الضفة الغربية وحصار الرئيس ياسر عرفات في «مقاطعته»، ذاك الحصار الذي زاده بؤساً وتعقيداً، «مقاطعة» عرب كثيرين للزعيم الفلسطيني، فيما بدا أنه ضربٌ من التواطؤ والذعر.
والمرة الثانية، حديثاً، وبعد لقاء من جلالة الملك، حمل فيه على «رجالات الدولة» إياهم، الذين يؤثرون «الغياب عن السمع» ويلوذون بحسابات صغيرة، حين تشتد الحاجة إليهم، وهل ثمة من لحظة احتياج لهؤلاء أشد وطأة من اللحظة التي مررنا بها، والأردن محاصر بقوس من الأزمات، وتهديد الداخل لا يقل فداحة عن تهديد الخارج... يومها حاولنا أن نعرض للأسباب والظروف التي جعلت «الدولة» مجردة من «حزبها»، وحزب الدولة الذي نقصد، ليس انحيازاً إيديولوجياً أو فئوياً أو سياسياً أو اجتماعياً بل هو حزب الذائدين عن الأوطان و»المصلحة العليا».
من تجربة كاتب هذه السطور الشخصية، كمقدم (سابق) لبرامج سياسية وحوارية، ومن خبرته الخاصة في تنظيم المنتديات والمؤتمرات وورشات العصف الذهني، أعترف بأنني لطالما وجدت مصاعب جمّة في البحث عن هؤلاء، واستضافتهم للحديث في الشأن العام، وتقديم «خطاب الدولة ومصالحها» في جملة الملفات قيد البحث... ولولا قلة من أصحاب الرأي والخبرة، الممتلئين خبرة ومعرفة، لبقي المقعد الأردني «فارغا»، على المنصة والشاشة على حد سواء.
وأذكر أنني فاتحت الصديق داودية في الأمر، ذات مؤتمر عقد مؤخراً... وأضيف إلى ما قلته: أنني لطالما لجأت إلى جيل السبعينيات والثمانينيات من كبار المسؤولين الأردنيين، لملء الفراغ «القاتل»، علماً بأن جلهم بلغ من الكبر عتيّا... من دون أن تنجح «الدولة» في «تشبيب» طبقتها السياسية، وخلق أجيال من السياسيين والخبراء والمختصين، القادرين على حمل الراية والتصدي للمهمة.
يكتب داودية بالأمس عن لقاء/ندوة في الديوان الملكي العامر، ضم 45 شخصية من عيارات وأوزان مختلفة... وهذا تقليد أردني، كما نعرف وتعرفون، ولا أحسب أن ناشطاً أردنياً في العمل العام على اتساع ميادينه، لم ينخرط في لقاءات من هذا النوع، بيد أن السؤال الذي سيبقى يلح علينا جميعاً: ماذا بعد أن نستمع لشروحات وإيجازات؟... ماذا بعد أن ننخرط في نقاشات وحوارات، أليس من الواجب أن نخرج للملأ، لنعرض لما سمعنا، ولنناقش ما قيل على مسامعنا؟
لست أقترح أن نتحول إلى «ببغاوات» نردد ما نسمع، فتلكم ليست من التعددية في شيء، ومن حق المختلف مع السياسات العامة، أن يدلي بدلائه في الجدل الوطني العام... جُل ما ادعو له، هو ألا تبقى هذه الحوارات حبيسة الصدور، وأن يخرج «رجل الدولة» عن مألوف العادات التي اكتسبها مؤخراً، فيتحدث في الشأن العام أمام الملأ وليس في الصالونات والغرف المغلقة «وقواعد تشاتم هاوس»، فالرأي العام الأردني على اتساعه، أكبر من أن يُحشر في هذه الغرف والمجالس، ومن حقه علينا، وواجبنا نحوه، أن نبقية على صلة.
ولست من المعجبين بالمقالات والتعليقات التي تصدر في ختام لقاءات/ ندوات من مثل تلك التي أشار إليها داودية بالأمس، والتي لا تفعل شيئاً سوى إعادة صياغة وانتاج «خبر الديوان» أو تقرير «وكالة بترا»... أنا من الداعين لفتح حوار حول السياسات التي يجري تقديمها في مثل هذه المنتديات، وليتفق بشأنها المتفقون وليختلف حولها المختلفون، فهذه هي الطريقة الوحيدة التي نعرفها، لإشراك الرأي العام في الحوار الوطني العام، وتلكم هي أرقى الصيغ التي يمكن لـ «الطبقة السياسية» و»رجالات الدولة» أن يمارسوا أدوارهم من خلالها بعد خروجهم من الوظيفة الرسمية.
من نافل القول، أن ثمة قواعد أخلاقية، تحظر «تسريب» ما يجري عرضه تحت عنوان «مكتوم»، ليس لأن «المجالس أمانات» كما يقول المثل الأردني الدارج فحسب، بل لأن للمسألة صلة مباشرة، بأعمق مصالح الدولة وعلاقاتها وتكتيكاتها، على ألا يتخذ من ذلك ذريعة للغرق في الصمت والاستنكاف عن المشاركة في الحوارات العامة.
وأخيراً، لست بصدد إعادة تفسير ظاهرة الاستنكاف والغياب هذه، فقد مررت بها في مقالات عدة سابقة، نشرت في هذه الزاوية بالذات... كما أنني لست بصدد إلقاء كامل المسؤولية على «رجالات الدولة» و»الطبقة السياسية»، فثمة أطراف «في الدولة» تتحمل قسطاً من المسؤولية في «تغييب» هؤلاء... لكنني وددت الإشارة إلى أن «مخزوننا» من هذه النخب يكاد ينضب بالتقادم وعوامل الزمن، وما لم تجدد الدولة نخبها السياسية، سيتعين عليها خوض معاركها الراهنة والمستقبلية، مجردة من أهم أسلحتها «الناعمة».