بقلم -عريب الرنتاوي
لم يمض وقت على توقيع أنقرة وطرابلس الغرب اتفاقاً عسكرياً، وموافقة البرلمان التركي على السماح للجيش بتنفيذ "مهمة عسكرية" في ليبيا (أربعة أشهر تقريباً)، حتى طرأ "انقلاب" في المشهد الميداني لصالح حكومة الوفاق "المعترف بها دولياً"، إذ نجحت قواتها وحلفاؤها، في استعادة سيطرتها على معظم مناطق الساحل الغربي وجميع مدنه وبلداته الرئيسة، في أسوأ خسارة يتكبدها الجنرال خليفة حفتر منذ أن أطلق معركته الكبرى لاستعادة العاصمة الليبية، وبسط سيادته على كامل البلاد.
طوال الأعوام القليلة الفائتة، وتحديداً في السنة الأخيرة، بدا أن قوات الجنرال المعروفة باسم "الجيش الوطني"، قدراً لا رادّ له، لم تدخل معركة إلا وكسبتها، نجحت في استرداد معظم الأراضي الليبية، وحصر "الوفاق" في الزاوية الغربية للبلاد، حيث العاصمة وجوارها ... امتلأ الجنرال زهواً، وهو الذي لم يُبق وساماً أو "نيشاناً" أو رتبة عسكرية، إلا وعلّقها على كتفيه أو صدره، حتى بات مدججاً بها.
"غطرسة القوة" و"نشوة الانتصارات المتلاحقة"، جعلت الجنرال الغارق في متاهته (بالاعتذار من غابريال غارسيا ماركيز) أقل اهتماماً بالسياسة وحلولها التفاوضية ... ذهب إلى مؤتمر موسكو، الملتئم تحت رعاية حليفة فلاديمير بوتين، وانسحب منه تحت جنح الظلام، من دون أن ينطق بالكلمة السحرية: وقف شامل لإطلاق النار، والشروع في البحث عن حل سياسي للأزمة التي طالت واستطالت ... بدا قليل الاكتراث بمؤتمر برلين، الذي رعته واحتضنته السيدة أنجيلا ميركل المسكونة بهاجسي الإرهاب واللجوء ...كل ما كان يعنيه، المزيد من الاجتماعات بالقيادات الدولية والتقاط الصور التذكارية معها، وتلقي الاتصالات الهاتفية وإجرائها ... الرجل مطعون في شرعيته، وخصمه على الخندق الآخر، فايز السراج، لا يكاد يُذكر اسمه، حتى يُستتبع بتعريف: رئيس الحكومة المعترف بها دولياً ... هذا أمرٌ ليس بالقليل الأهمية، حتى وإن وقفت الشرعية الدولية عاجزة عن مد العون لمن تعترف بهم كممثلين شرعيين لليبيا والليبيين.
غاب عن ذهب الجنرال الذي مَنَحَ نفسه لقب "مشير" في احتفالية باذخة، أن الفضل في انتصاراته المتعاقبة لا يعود لخبراته العسكرية أو لشخصه وشخصيته (غير كارزمي على أية حال)، فقد سبق له أن خسر حرباً، أقرب للمسرحية الكوميدية بين بلاده والتشاد (1987)، ووقع فيها أسيراً، ولم يكترث القذافي لأمره، ما دفعه للانشقاق عن النظام واللجوء إلى الولايات المتحدة...نقول، غاب عن ذهن الرجل، أن الفضل في انتصاراته المتعاقبة والمتلاحقة، إنما يعود لسخاء داعميه الإقليميين في تزويده بالمال والعتاد والسلاح والمرتزقة والخبراء ... طوفان المساعدات المتدفق من مصر والسعودية والإمارات، لم يكن يوازيه طوفان آخر على الضفة الأخرى، حتى حسم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أمره، وقرر فتح مستودعات السلاح التركي وخزائن المال القطري، ومعسكرات المرتزقة من فلول ما كان يُعرف بالجيش الحر وجماعات أصولية إخوانية وسلفية، للقتال في صفوف "الشرعية".
وفقاً لمصادر متعددة، نجحت تركيا خلال الأشهر الأربعة الفائتة، في إقامة جسور بحرية وجوية مع طرابلس الغرب، ضمّنتها شحنات من مختلف أنواع الأسلحة المتطورة، بما فيها أنظمة مضادة للطائرات، وطائرات مسيّرة وغيرها ... سمح ذلك لقوات طرابلس الغرب، باستعادة التوازن، وصولاً إلى استعادة زمام المبادرة، ووضعت الحلف الداعم للجنرال العجوز، في خانة حرجة، سيما في ظل تواتر المعلومات، التي لم تتأكد من أي مصدر موثوق بعد، عن وقوع أعداد من الخبراء وكبار الضباط من الدول الداعمة في قبضة قوات "الشرعية".
تضع انتكاسة حفتر وحلفائه المشهد الليبي على مفترق حاسم بين طريقين: الأول؛ أن تلعب "الصفعة" دورها في "تبريد رأس الجنرال الحامية”، وترغمه على إبداء قدر من التواضع للجلوس إلى مائدة التفاوض بحثاً عن حل سياسي للأزمة، وبدءاً بالاستجابة لنداء الأمين العام للأمم المتحدة الداعي لـ"وقف عالمي لإطلاق النار"، وعملاً بمقررات برلين وموسكو، وما سبقها من مؤتمرات واتفاقات ظلت حبراً على ورق ... والثاني؛ "أن يركب الجنرال رأسه"، مدعوماً من حلفائه الإقليميين، فيقرر شن هجمات مضادة واسعة النطاق، وتصعيد وتائر الحرب والقتال، لاستعادة ما فقده من مواقع استراتيجية من جهة، ولترميم ثقة داعميه به من جهة ثانية...يصعب من الآن، التكهن بوجهة تطور الأحداث في ليبيا، وأي طريق من الطريقين السابقتين، سوف تسلك.
لقد راهن العالم على أن جائحة كورونا، قد تدفع بالأطراف المشتبكة بأزمات المنطقة المفتوحة وحروبها المشتعلة، على تغليب "الإنساني" على "السياسي"... لكن هذا لم يحدث، بل أن ما شهدناه هو نقيض ذلك تماماً... فاليمن سيواجه إحدى أكبر وأوسع المواجهات الميدانية، في الجوف وعلى أطراف مأرب وفي العمق السعودي، قبل أن تعاود الغارات السعودية والصواريخ الحوثية تساقطها على أهداف من هنا وهناك ... وشمال غرب سوريا، سيشهد تصعيداً تدريجياً بين قوات النظام السوري وداعميها من جهة وجبهة النصرة وحلفائها ووحدات الجيش التركي من جهة ثانية، وسط معلومات مؤكدة عن قيام أنقرة بإدخال آلاف الآليات والجنود إلى محافظة إدلب وجوارها، وقيام الجيش السوري وحلفائه في المقابل، بحشد المزيد من القوات، استعداداً لساعة الصفر ... أما ليبيا، فيكفي أن يقال أن أشرس المعارك وأوسعها نطاقاً، قد اندلعت في الغرب الليبي في ذروة تفاقم الجائحة.
وعلى الرغم من ضخامة الأعباء المالية والاقتصادية والاجتماعية للجائحة، والتي ظن كثيرُ من المراقبين، بأنها ستكون سبباً في دفع الأطراف المتصارعة للابتعاد خطوة عن "حافة الهاوية"، إلا أن سير الأزمات وحروب الوكالة في المنطقة، لا يدعم هذه الظنون والرهانات، فالدول الإقليمية التي تخوض حروب الوكالة، يبدو أنها مستعدة للدفع من "لحمها الحي" نظير تفادي الهزيمة في أي من مواجهاتها مع الأطراف الأخرى، وبما يشبه الغياب الكامل للعقل والعقلانية، دع عنك حكاية القيم والضمير والأخلاق.
والمؤسف حقاً، أنه بالقدر الذي لا يملك فيه المرء سوى إبداء أ عمق مشاعر القلق والتضامن الإنساني مع شعوب هذه البلدان المنكوبة بحروبها الداخلية وحروب الآخرين عليها، فإنه وبالقدر ذاته، لا يحتفظ بأي مشاعر "تضامن سياسي"، مع أي من أفرقاء الصراع المتناحرين ... فلا يمكن لليبيا والليبيين أن يحظوا بمستقبل أفضل لا في ظل قيادة حفتر وجنرالاته، ولا تحت زعامة فايز سراج وحلفائه من جماعات "الإسلامي السياسي" وميليشياته المتدثرة بلبوس "شرعية مفخخة" ... ولا يمكن التنبؤ بمستقبل أفضل لليمين، لا تحت قيادة الحوثيين، ولا في ظل "شرعية" عبد ربه منصور هادي المطعون بـ"شرعيتها"... والحال ذاته، ينطبق بالقدر ذاته، على الصراع في سوريا، سيما بعد أن تحول الفاعلون المحليون في هذه الأزمات المتراكبة والمتراكمة، من "لاعبين" إلى "لُعبٍ" في أيدي المراكز الإقليمية والدولية المتصارعة.