بقلم - عريب الرنتاوي
لا يتوقف الجدل حول كيفية التعامل مع الجماعة الإخوانية في العالم العربي، حتى يعود للاندلاع من جديد عند أول حادثة أو "تصريح"...فيديو قصير يربط الداعية الكويتي الإسلامي المعروف الدكتور عبد النفيسي بـ"الإرهاب" وجماعة الإخوان، نشرها وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد، كانت كافية لبعث الخلاف حول هذه المسألة من جديد، وليأخذ الجدل بشأنها طابعاً "اتهامياً" و"مهاتراً" على صفحات التواصل الاجتماعي، وليبري كتاب ومثقفون عرب لإدلاء بدلائهم المحمّلة بأفكار وأطروحات رزينة، لا تتخفف بالطبع من انحيازاتهم الفكرية والسياسية، وهذا أمرٌ مفهوم، مع أن النفيسي نفى مراراً علاقته بالإخوان، بل وقدم انتقادات لاذعة لهم في غير مرة.
هنا تشتد الحاجة لفرز غث المواقف المتطايرة يميناً وشمالاً، عن سمينها ... فالإخوان في في جماعتهم العربية، ليسوا فريقاً متجانساً، ولا هم "كرة مصمتة"، منهم من ذهب في اتجاهات أكثر مدنية وحداثية، ومنهم من ظل على خطابه "الخشبي" القديم، ومنهم فئة "مارقة" ارتأت السير على طريق "السيف والدم"، ومنهم من ضاقت به عباءة الإخوان وقرر الانشقاق عليها أو الانسحاب من منظومة "السمع والطاعة" القائمة عليها، ليلتحق بحزب آخر، أو ليؤسس أحزاباً سياسية، يمينة محافظة في الغالب الأعم.
لكن الجمهرة الكبرى من جماعة الإخوان، أو ما يُسمى تيارها المركزي الرئيس في العالم العربي، لم تنخرط في أعمال إرهابية، ولم يؤخذ عليها لجوئها إلى العنف والعمل المسلح، إلا في لحظات استثنائية نادرة، محدودة في الزمان والمكان ... والملاحظ أن الإخوان الذين مالوا أكثر من غيرهم للعنف واستخدام السلاح، إنما جاءوا من بلدان خضعت لأنظمة شديدة البطش، لم تتوان للحظة عن ممارسة أبشع صنوف العنف الجسدي والنفسي ضد خصومها ومعارضيها، وتحت حجج وذرائع وشعارات شتى.
والإخوان كما تدلل تجاربهم في العالم، وبوصفهم حركة مدينية تنتمي في الغالب للطبقة الوسطى من مهنيين ورجال أعمال وبيروقراطيين مبثوثين في أجهزة الدولة، لطالما كانت غايتهم "المشاركة" في الحياة السياسية، مع أن رغبتهم في "المشاركة" لم تخف رغبتهم في "المغالبة" كذلك، وتقديم الجماعة على الدولة، و"الهوية الإسلامية الجامعة" على "الهوية الوطنية أو القومية" الأضيق.، مع أن هذه "سمة" لم ينفردوا بها كذلك، فكافة التيارات السياسية والفكرية، أظهرت نهماً لـ"المغالبة"، وقدمت الحزبي على الوطني، والزعيم على الحزب، وأبنائه على "الرفاق".
خيارات التعامل مع الجماعة الثلاث
يمكن تقسيم الدول العربية إلى ثلاث فئات، تبعاً للأنماط الثلاثة في تعاملاتها مع جماعة الإخوان المسلمين:
الأولى؛ وهي دول الإقصاء والاستئصال، ولقد تقدمت مصر قائمة هذه الدول في عهد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، لتأخذ سوريا في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد زمام قيادة هذا التيار الاستئصالي ... اليوم، تعاود مصر انتاج مقاربتها الاستئصالية – الإقصائية بأقسى طاقتها، وتتصدر الإمارات العربية المتحدة لائحة الدول العربية التي تخوض حرباً لا هوادة فيها ضد الجماعة، مع توجه إماراتي غير مسبوق عربياً هذه المرة، ويتمثل في مطاردة الجماعات الإخوانية خارج الحدود، وفي دول أخرى، قريبة وبعيدة.
الثانية: وتمثل مجموعة الدول التي قررت احتواء الجماعة وإدماجها، هنا لا يوجد عدد كبير من هذه الدول، ربما تتقدم تونس والمغرب الصفوف العربية في هذا المضمار، قبل الربيع العربي، كانت السعودية مرجعاً وحليفاً للجماعة، امتداداً لسياسات الحرب الباردة وتحالفاتها، وثمة مروحة أخرى من الدول الذي قطعت أشواطاً متفاوتة في سياسة الاحتواء.
الثالثة؛ وهي الدول التي اتبعت مقاربة تكاد تكون "منزلة وسط بين منزلتين"، فهي تمارس أشد الضغوط على الجماعة، بيد أنها تبقي لها هوامش لحرية الحركة والمشاركة والتمثيل...الأردن صاحب الخبرة الأطول والأعمق على هذا الصعيد، وثمة مروحة من الدول التي تعتمد المقاربة ذاتها، بتناسب متفاوت بين عنصري الضغط والإدماج، نذكر هنا الكويت والبحرين واليمن قبل الربيع العربي وبعده، لبنان، وغيرها.
في المقاربات الثلاثة السابقة، لا يفوت المراقب الحصيف ملاحظة أن "الدافع الرئيس" للأنظمة والحكام في تبني هذه المقاربة أو تلك، إنما تعود لقراءاته الخاصة لأفضل السبل وأقصر الطرق للحفاظ على النظام وإطالة أجله ... الاستئصاليون رأوا في الجماعة تهديداً لحكمهم، والاحتوائيون رأوا في الجماعة، مصدراً للاستقرار طالما أنها لا تنشد تغيير قواعد "لعبة الحكم، وأتباع "المنزلة بين المنزلتين" لديهم من الأسباب الاجتماعية (التركيب السكاني الطائفي والعرقي والمذهبي أساساً)، ما يكفي للإبقاء على الجماعة، ولكن من ضمن سقوف ومحددات لا يسمح بتجاوزها.
هل ثمة "استثناء إخواني"؟
في العلن، وفي إطار تبرير وتفسير الميول الإقصائية – الاجتثاثية عند بعض الأنظمة والحكومات في تعاملها مع جماعة الإخوان، يرد القول بأنها "أم جميع الحركات الإرهابية" في العالم العربية، وأنها "الجذع" الذي نمت عليه كافة الحركات الإرهابية ... هذه القراءة، قد تكون صحيحة، بيد أنها صحيحة "نسبياً" فقط، فمصادر الحركات الإرهابية الفكرية وجذورها الاجتماعية، ومنابتها الجغرافية، ترجح دور "السلفية الجهادية" و"الوهابية" كمصدر إيديولوجي رئيس للجماعات الإرهابية، وترشح الجزيرة العربية، وليس مصر والحواضر العربية الأخرى، بوصفها الوعاء الكبير الذي استنبت منه الجماعات الإرهابية رموزها ومفكريها وقادتها، ودائماً من دون التهوين من إسهام التيارات الإخوانية القطبية – المودودية الأكثر تشدداً في تغذية الموجة الإرهابية، ولا التقليل من شأن المصادر البشرية غير الخليجية للتجنيد والتعبئة والتنظيم.
ثم، من قال إن جماعة الإخوان هي "نسيج وحدها" في هذا المضمار، مضمار العنف المسلح المدجج بالإيديولوجيا والأفكار المتطرفة ... ألم تكن حركة اليسار العربي الماركسية - الشيوعية العريضة في ستينات القرن الفائت وسبعيناته، مصدراً نبعت منه حركات يسارية إرهابية كذلك؟ ... ما الفارق بين اعتداء على طائرة مدنية أو خطفها لأسباب إيديولوجية يسارية واستخدام الطائرة ذاتها في هجمات الحادي عشر من سبتمبر / أيلول 2001؟ ... ما الفرق بين الجماعات التي امتهنت استهداف مراكز ومواقع مدنية، للتبشير بالشيوعية ورفع رايتها، وبين جماعات دينية متطرفة وعنيفة، استهدفت المدنيين لنشر راية الإسلام؟ ... الفارق الموثق الوحيد، أن جماعات الإرهاب المغلفة بالدين وراياته، كانت الأكثر قدرة على كسب تأييد قطاعات مهمة من الرأي العام العربي، بينما ظلت الجماعات الإرهابية ذات الشعار والخطاب اليساري، "أقلوية" لأن الشوارع العربية لم تتعاطف معها.
وما ينطبق على التيار اليساري العربي، ينطبق بالقدر ذاته، وربما بقدر أكبر، على التيار القومي العربي كذلك، وهو الذي اشتهر بتصفية خصومه، وتدبير الانقلابات العسكرية في ليل، وتعليق أعواد المشانق للمعارضين وإخفائهم قسرياً، وممارسة التصفيات الداخلية بين رموزه وقادته، وصولاً لإبادة عوائل المخالفين، والرمي بها "خلف الشمس" ... وحين لم يجد اليساريون والقوميون خصوماً أنداد لهم من خارج بيئتهم الإيديولوجية، ألم يمارسوا القتل و"الانتحار الجماعي" ... أليس هذا ما حصل في جنوب اليمن، وبأقدار متفاوتة في كل من سوريا والعراق تحت حكم البعث.
لكن أحداً في منطقتنا اليوم، أو حتى من قبل، لا يتهم اليسار فكراً وحركات، بأنها حاضنة للإرهاب ومنتجة له، كما أن أحداً لا ينتقد "القومية العربية" فكراً وحركات بوصفها حواضن للإرهاب ... التهمة فقط تلتصق بالتيار الإخواني، مع أنه ليس "الاستثناء" في هذا المجال.
ودعوني أذكّر بواقعة اغتيال الرئيس اليمني الشمالي أحمد الغشمي في يونيو 1978، بحقيبة دبلوماسية مفخخة مرسلة من رئيس اليمن الجنوبي اليساري آنذاك، والتي تكاد تكون نسياً منسيا اليوم، وتخيّلوا لو أن الفاعل آنذاك (رئيس دولة)، كان إخوانياً أو محسوباً على هذا التيار، وما الذي كان سيترتب على واقعة من هذا النوع وبهذا الحجم، وعلى هذه الدرجة من القبح والبشاعة، من خلاصات واستنتاجات.
الخلاصة، ليس الإخوان براءة من المسؤولية في تغذية اتجاهات التطرف في العالم العربي، ومن بينها التطرف العنيف، أو ما يسمى بالإرهاب، لكن لا يجوز أخذ الجماعة العريضة، وبالذات تيارها المركزي بجريرة ما تفعله عناصر منشقة عنها أو منبثقة منها، كما لا يجوز بحال من الأحوال اعتماد مقاربة قائمة على "الكيل بمكيالين"، كأن يجري التحالف معهم في اليمن ضد الحوثيين على سبيل المثال، أو يسكت عن وجودهم في البرلمانيين الكويتي والبحريني، فيما "جام غضب" بعض الحكام ينصب على إخوان بلادهم.
حروب الاستئصال ضد الجماعة الإخوانية الممتدة بامتداد الوطن العربي، منشأها الأساسي خشية بعض الأنظمة العربية منها بوصفها "منافساً" على الحكم، ومزاحماً على "الشعبية" و"الشرعية"... وفي مطلق الأحوال، نحن لا نرى في أداء هذه الحكومات والأنظمة، ما يدلل على أنها أقل "دموية" و"أكثر رأفة" بحال البلاد والعباد، من الجماعة الإخوانية، وذلكم "بيت القصيد"، والأهم من كل هذا وذاك وتلك، أن تجربة الاستئصال والاجتثاث، سبق أن جربت مرات ومرات، ضد الإخوان وغيرهم من التيارات، ولم يترتب عليها سوى تهديد السلم الأهلي، وخلق بذور انقسامات لا متناهية، وصراعات مجتمعية غير منتهية، في حين لم تعدم الجماعات المستهدفة، وسيلة للعودة من جديد، والانبعاث من تحت الخرائب والأنقاض...إنها لعبة عبثية "وقودها الناس والحجارة".