عريب الرنتاوي
ليس الارتباك وحده هو ما ميّز المشهد الفلسطيني المنقسم حيال ما يجري من كارثة وطنية – إنسانية في مخيم اليرموك ... العجز، ربما كان الصفة الأكثر طغياناً على مواقف الأطراف الفلسطينية الرئيسة، من منظمة التحرير وحتى أصغر فصيل فلسطيني انضوى تحت لوائها أو ظل خارجها.
يذهب عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، موفداً من السلطة والرئاسة والمنظمة، يجتمع بفصائل العمل الوطني المتواجدة في سوريا، ويلتقي القيادة السورية، يخرج بتصريحات علنية، صوت وصورة، يعلن فيها الاتفاق مع من التقاهم في العاصمة السورية، يتحدث عن نهاية المفاوضات والمبادرات، وعن حسم عسكري للوضع في مخيم اليرموك، وعن دعم خيارات السلطات السورية، وتشكيل غرفة عمليات مشتركة ... تتوحد مواقف الفصائل على اختلاف مشاربها وتحالفاتها، إلى الحد الذي بدأ متحدثون يطالبون بمدِّ الأمور على استقامتها، وتطوير تجربة “وحدة الموقف” حول اليرموك، إلى وحدة وطنية شاملة.
صبيحة اليوم، وقبل أن يجف حبر تصريحات الموفد الرئاسي إلى دمشق، تخرج أمانة سر المنظمة ببيان مغاير ... تنفي فيه جملة وتفصيلاً كل ما قيل ونسب إلى موفدها من مواقف، وتجدد التأكيد على سياسة النأي بالنفس، ترفض الحسم العسكري، وتدعو لتحييد المخيم وعدم الزج به في أتون حرب لا ناقة للفلسطينيين فيها ولا جمل، وتدعو كافة الأطراف، وتشدد على “كافة”، بأن تمتنع عن محاولات جر المخيم إلى خنادقها، أو تحويلها ساحة لتسوية الصراعات فيما بينها ... استدارة كاملة وبزاوية 180 درجة عمّا قيل في دمشق.
تقف الفصائل، واستتباعاً السلطات السورية وحلفاؤها، حائرون في تفسير لغز “انقلاب الموقف” الفلسطيني ... منهم من قال إن “الموفد” كان ينطق بلسانه الشخصي، ولسان فصيل صغير متشقق في الأصل ... بعضهم الآخر، ذهب أبعد من ذلك في التحليل، وقال إن ضغوطاً مورست على القيادة الفلسطينية خلال الساعات الأربع والعشرين التي أعقبت زيارة الموفد، دفعتها لتغيير مواقفها تحت طائلة التهديد بحجب المساعدات وإغلاق صنابير الدعم.
كثرة من المتحدثين من فريقي الانقسام الفلسطيني خرجوا للفضائيات، زرافات ووحدانا، يشرحون ويفسرون ويدافعون ويبررون، لكن كلما أكثر هؤلاء من الشرح والتوضيح، كلما ازداد الموقف غموضاً ... قالوا كل شيء عن كل شيء، باستثناء شيء واحد: كيف يمكن إخراج المخيم من محنته؟ ... كرروا كل ما في جعبهم من عبارات ومناشدات، عن المجتمع الدولي والاتصالات مع الأشقاء وعن الحلول السياسية وتحييد المخيم والنأي به، لم يكلف أحدٌ نفسه عناء الإجابة على سؤال: ألم تجرب كل هذه الشعارات من قبل، وهل أفلحت في وقف تقدم النصرة أو زحف داعش من قبل حتى توقف تقدمها من بعد؟
ارتباك شديد، إن دلّ على شيء فإنما يدل على “أزمة قيادة” في الحالة الفلسطينية ... فإن كان “الموفد” قد نطق بلسانه ولسان فصيله فتلك مصيبة، فالرجل كان في دمشق، بصفته عضواً في تنفيذية المنظمة ووزيراً في السلطة، لا بصفته الشخصية أو الفصائلية ... وإن كان الرجل نطق بالحق، أي بالموقف الرسمي، وأن هذا الموقف هو ما تغير بين عشية وضحاها، فالمصيبة أعظم ... إذ كيف لقيادة أن تغير رأيها في غضون ساعات قلائل لا أكثر ولا أقل.
خلاصة القول، بدأ المشهد على درجة كبيرة “البهدلة” التي لا تليق بفلسطين شعباً وقضية وحركة تحرر ... بدأ المشهد مؤسفاً إلى حد كبير للغاية ... بدا أن ثمة استخفافا يُمارس في مسألة لا تحتمل الاستخفاف أو الخفة، بل ولا تحتمل “ترف” السجال الفصائلي وانقساماته الكريهة ... بدا أن ثمة قدرا من انعدام المسؤولية في أزمة “الوقت فيها من دم وأشلاء وركام وأنقاض”.
لكن العجز، ظل نافراً في تصريحات كبار المسؤولين الفلسطينيين المرتبكين ... لم نعرف برغم البيانات وساعات البث الفضائي، ما الذي ستفعله المنظمة اليوم وغداً لوقف الكارثة الإنسانية والوطنية التي تحيق بالمخيم وأهله ... نعرف أنها لا تريد حسماً عسكرياً، ولا تريد تحويل المخيم إلى ساحة حرب بين النظام وخصومه ... لكن هل يمتلك المخيم “ترف” اللاءات الفلسطينية غير المسنودة بأي فعل على الأرض؟ ... ما الذي لم تجريه المنظمة من مشاورات واتصالات حتى الآن، وستعمل على إجرائه في قادمات الأيام لإنقاذ المخيم وأهله؟ ... هل سيفلح هذا الانشاء الجميل، المستوحى من نصوص ميتة في القانون الدولي، في درء الكارثة عن المخيم وأهله؟ ... لا يريدون حسماً عسكرياً، ولا يمتلكون أدوات الحل السياسي ... مع من سيجري التفاوض بشأن المخيم، مع النصرة أو داعش؟ ... هل يفهم القوم لغة الحق والقانون والنأي بالمخيم وتحييد الفلسطينيين؟ ... هل يؤمنون بوجود فلسطينيين وقضية فلسطينية من الأساس، أم أنهم يتحدثون عن مسلمين وخلافة ودولة إسلامية إلى غير ما في قاموسهم من مصطلحات ومفاهيم.
ومثلما ارتسم الارتباك والعجز على أداء السلطة والمنظمة والرئاسة، فإن الخيبة قد ميّزت مواقف حماس ... فهي لا تعترف بأبوتها لـ “أكناف بيت المقدس”، بيد أنها تسارع مثل “أم الولد” للعمل على إنقاذها من خناجر داعش، حتى وإن اقتضى الأمر “توسيط” فصائل محسوبة على النظام السوري وفقاً لحماس ... هي ذاقت مرارة خيبة الرهانات على أصوليات جهادية، اعتقدت إنها تشاطرها بعضاً (أو كثيراً) من مرجعياتها، إلى أن رأت الخناجر تجزّ أعناق كوادرها وتطعنهم في ظهورهم ... هي راهنت على “إسلاميتها” و”إسلاميتهم”، فإذا بحروب الإخوة الإسلاميين الأعداء أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند ... هي راهنت وعدّت الأيام الأخيرة لنظام الأسد وحلفائه، بيد أن حساباتها طاشت، ورهاناتها خابت ... والمخيم هو من يدفع الأثمان، بعد أن توزع “المجاهدون” شيعاً وقبائل، بعضهم بايع داعش، وآخرون التحقوا بركب القيادة العامة، وفريق ثالث ينتظر “المصالحات الوطنية” علّها تشمله.
ارتباك ... عجز ... خيبة، عناوين ثلاثة تصف الموقف على ضفتي الانقسام الفلسطيني حيال أزمة المخيم، الشاهد الشهيد، والمأساة لم تكتمل فصولاً بعد.